top of page
Writer's pictureAshley Barlow

الفن العباسي: إبداع خالد و تأثير عالمي


تعد الحقبة العباسية إحدى تلك اللحظات الفريدة التي اجتمعت فيها أعظم العقول في تاريخ البشرية، مخلفة وراءها إرثًا عظيمًا ترك أثره العميق على القرون اللاحقة. فقد أسهم الرياضيون، العلماء، الفلكيون، الشعراء، والفلاسفة في خلق حقبة ذهبية من التعلم والمعرفة، واضعين حجر الأساس للنهضة العلمية والفكرية التي تبعتهم.


ورغم أن كتبهم، أفكارهم، واختراعاتهم ما زالت موجودة معنا اليوم، إلا أنها تبدو غائبة أو غير ملموسة بفعل وتيرة الحياة الحديثة

وسرعة تطورها. ومع ذلك، يمكننا في أماكن مختلفة من البلاد أن نتمعن أسطح البنايات القديمة، وندرك أن هذه اللحظة التاريخية لا تزال حاضرة في عالمنا اليوم. بالطبع، أنا أتحدث هنا عن الفن العباسي.


غالبًا ما يُصنَّف تطور الفن خلال الحقبة العباسية ضمن الفن الإسلامي بشكل عام، مما يُفقده دلالاته وأهميته كفن نشأ وتطور خلال فترة مميزة من تاريخ العراق. ومع ذلك، فإن الفن والعمارة العباسيين تركا بصمة واضحة ما زالت تؤثر على التصميم العالمي حتى يومنا هذا، مما يمنحنا فرصة لفهم أعمق لتلك الحقبة الزمنية التي يتجاهلها الكثيرون في المجتمعات العالمية المعاصرة. في هذه المقالة، سنلقي نظرة أقرب على النقوش العباسية التي ما زالت قائمة حتى اليوم في بغداد، وكيف يمكن لهذه النقوش أن تكون جسرًا للتواصل مع أسلافنا القدماء عبر الجدران التي تحيط بنا.


يتجلى في الفن العباسي عدد من المفاهيم الأساسية التي تكشف عن عمقه وتنوعه، من أبرزها الأنماط الهندسية، الأرابيسك، والتصاميم الخطية. هذه العناصر تعكس أسلوبًا فنيًا ذا طابع رسمي يربط بين المكان والفضاء في إطار نظرية كونية أشمل. وفي المقابل، نجد نمطًا آخر غير رسمي، يعتمد على التصوير، يقدم لمحات نابضة بالحياة عن الحياة الاجتماعية للمجتمع في تلك الحقبة.


تُعد بقايا هذا الفن بمثابة نوافذ تطل على نظرة الناس آنذاك إلى العالم من حولهم وموقعهم ضمن هذا الكون، مما يمنحنا فرصة لفهم أعمق لثقافتهم وتصوراتهم.


الأنماط الهندسية، التي أصبحت رمزًا لفن العالم الإسلامي، وصلت إلى ذروتها وتطورها الكامل في العصر العباسي، حيث رأى الفلاسفة والرياضيون رموزًا ومعاني عميقة في الأشكال. فالدائرة، بخطوطها المستمرة، تمثل الأبدية والشباب الدائم، بينما يعكس المربع الاستقرار والثبات. أما النجوم ذات الثماني جهات، فتشير إلى اتساع الكون وعجائبه، في حين أن مفهوم الفسيفساء يجسد أنماطًا متكررة تربط المشاهد بعوالم من القوة، الابتكار، والتناغم الكوني.


عندما تتجول في أرجاء المدرسة المستنصرية، ارفع رأسك تحت الأقواس الكبيرة، وستشاهد تلك الأنماط الهندسية اللامتناهية. قد يخطر ببالك أنها تمثل النجوم في السماء، وربما يكون ذلك صحيحًا، لكنها أيضًا تعكس رؤية العباسيين للكون. عالمٌ مخلوق بشكل منهجي، مثالي، وله هدف محدد، صُنع بإتقان إلهي يعكس عظمة الخالق.


أنماط ونقوش الأرابيسك تتميز بقابليتها للتكرار بسهولة، مما يجعلها مرتبطة بمفاهيم الأبدية واللانهائية، مع الاحتفاء في الوقت ذاته بجمال الطبيعة وإبداع الخلق. استلهمت الأنماط الورقية من العالم الطبيعي، واعتمدت بشكل واسع في العمارة العباسية، حيث جسدت التوازن بين التحضر والعالم الطبيعي.

الدور الذي يلعبه العالم الطبيعي في الفن ليس غريبًا على سكان بلاد ما بين النهرين القدماء، إذ يعود مفهوم “شجرة الحياة” إلى هذا الحوض التاريخي. كانت “شجرة الحياة” رمزًا محوريًا في التصورات الآشورية عن دور الملكية، حيث ربطت الحدائق بفكرة الحكم والاستقرار. في الحقبة العباسية، استمر هذا التقليد مع التركيز على أشجار النخيل العراقية، إذ أصبحت “السعيفات” جزءًا من الأنماط النباتية المتشابكة التي لا نهاية لها، والتي زينت العمارة العباسية.


عندما صُنعت هذه الأنماط في البنايات العظيمة في بغداد وسامراء، كانت تلك المدن مليئة بالحدائق التي دمجت بين الطبيعة والحياة اليومية، على عكس ما نراه اليوم من شوارع فارغة. من المنصف القول إننا فقدنا ذلك الاتصال العميق بالطبيعة الذي كان جزءًا لا يتجزأ من المجتمعات القديمة. ومع ذلك، يظل الفن وسيلة لإحياء هذا الاتصال؛ فالزخارف النباتية المطبوعة، اللوحات، وحتى النباتات المنزلية، جميعها تلعب دورًا مهمًا في التصميم الداخلي الحديث، مستحضرة ذلك الرابط القديم مع الطبيعة في حياتنا اليومية.


كانت النقوش الخطية من أبرز سمات العمارة العباسية، حيث زينت المساجد والمدارس بآيات قرآنية محفورة يدويًا، مما يعكس أهمية الدين والدور المحوري الذي لعبه في المجتمع آنذاك.


الوقت الذي استُثمر في نحت تلك الكلمات شاهد على إبداع وحرفية النحاتين، الذين حولوا كلماتاللهإلى جمال ملموس ومقدس. جمالية النص المكتوب لم تكن مجرد عنصر زخرفي، بل تحمل صدى شخصيًا لدى كل من يراها، معبرة عن عمق الإيمان وروحانية اللحظة. كما أن هذه النقوش تقف شاهدة على براعة الفنانين الذين أتقنوا فن التنسيق والتناغم.


هذه المفاهيم أصبحت أعمدة أساسية للفن العباسي، تعمل كدليل عام للحرفيين للتعبير عن أنفسهم على المستويين المادي والميتافيزيقي. ومع ذلك، لا تقتصر الإبداعات الفنية العباسية على الأنماط الهندسية والخطية فحسب؛ إذ يمكننا العثور على صور مصورة للبشر، الحيوانات، ومظاهر الحياة اليومية في المخطوطات، على الجدران، مرسومة على الأدوات والأواني، وحتى محفورة على الهياكل المعمارية القديمة.


خذ على سبيل المثال “باب الوسطاني”، آخر بوابة باقية من أسوار المدينة في العصور الوسطى. عند التمعن فيه، يمكن رؤية صورة تنين منحوتة فوق المدخل—عنصر غير مألوف في التقاليد الفنية أو الأدبية للشرق الأوسط. وجود هذا التنين يثير سؤا لًا مثيرًا: هل كانت التنانين جزءًا من المعتقدات اليومية في تلك الحقبة، أم أنها مجرد رمز للقوة والدفاع عن المدينة؟


تزودنا قصور سامراء العباسية بنظرة قريبة إلى الحياة الاجتماعية داخل أروقة البلاط العباسي، كاشفة عن عالم غني ومفعم بالحيوية. كانت جدران القصور مغطاة بالجص ومزينة برسومات تصور الموسيقيين، الراقصين، الحيوانات، والنقوش الزخرفية، مما جعلها فضاءً حضريًا نابضًا بالألوان والجمال. هذه الزخارف تدعم ما ورد في المصادر المكتوبة عن تلك الفترة، والتي أشادت بالمنسوجات الفاخرة، الزخارف المعقدة، والأثاث الراقي الذي كان يزين القصور.




مع الابتكارات الفنية والروحانية التي ازدهرت خلال الحقبة العباسية، ليس من المفاجئ أن تستمر هذه الأساليب في التطور داخل العالم الإسلامي وخارجه. من أبرز الأمثلة على ذلك المهارات المعمارية التي يمكن رؤيتها في مواقع التراث العالمي، مثل تاج محل، حيث تزين المقرنصات بوابات ضريح ممتاز محل، زوجة الشاه جاهان، في تعبير فني يجمع بين الجمال والتقديس. وبطريقة مشابهة، زُينت الجوامع والأضرحة الصفوية بأنماط فنية أظهرت ارتباط الحكام بالمقدس والرغبة في تجسيد هذا الاتصال من خلال العمارة.


في أزنيك، قرب إسطنبول، نجد بلاط السيراميك مزينًا بنقوش الأرابيسك، مستكملاً تقاليد الفن العباسي التي جلبت جمال الطبيعة إلى المساحات المعمارية. ولكن تأثيرات الفن العباسي لم تقتصر على العالم الإسلامي، بل امتدت إلى أوروبا. في العصر الفيكتوري في بريطانيا، وتحديدًا في أواخر القرن التاسع عشر، عاد العديد من الرحالة من الشرق الأوسط محملين بإلهام جمالي استوحوه من الفن العباسي. أدى ذلك إلى ازدهار حب الصناعات البريطانية المستوحاة من الشرق الأوسط، مثل بلاط السيراميك من تصميم ويليام دي مورجان، وورق الحائط من إبداع ويليام موريس، ومجموعة متنوعة من الأدوات المعدنية التي دمجت الخط العربي وأنماط الأرابيسك. هذا التخصيص الحضاري يمكن رؤيته بوضوح في



استوديو لايتون لفريدريك لايتون، وهو مثال مميز على أعادة تفسير الابتكارات الفنية العباسية في سياقات جديدة.


هذه التقاليد تعد شهادة حية على الأثر العميق والطويل الأمد الذي تركته الفنون العباسية على المستوى العالمي، والذي لا يزال واضحًا حتى يومنا هذا. كلما رأينا أنماطًا نباتية متكررة أو نقوشًا عربية محفورة بجمال ودقة، يمكننا أن نتوقف للحظة للتأمل في دور العراق في هذه القصة الفنية العريقة. مع هذا الإرث الغني، تقدم كرييتف روتس فرصة استثنائية لاستكشاف الفن العباسي من خلال جولة فنية ملهمة. سنركز على الأساليب التي تطورت خلال تلك الحقبة، قبل أن نغوص أعمق في تأثيرها العالمي ونتيح للمشاركين مساحة للإبداع.


استنادًا إلى أبحاث تخص ورشتنا السابقة، نقدم تجربة فريدة تمكن المشاركين من التفاعل مع التراث الفني العراقي في سياقاته المحلية والعالمية. لا تفوتوا فرصة التسجيل قريبًا لتصنعوا لوحتكم العباسية الخاصة!

14 views0 comments

Comments


bottom of page